فصل: تفسير الآيات (109- 111):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (109- 111):

{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)}
قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} العامل في الظرف فعل مقدّر، أي اسمعوا، أو اذكروا، أو احذروا.
وقال الزجاج: هو منصوب بقوله: {واتقوا الله} [المائدة: 108] المذكور في الآية الأولى. وقيل بدل من مفعول {اتقوا} بدل اشتمال. وقيل ظرف لقوله: {لاَّ يَهِدِّى} المذكور قبله. وقيل منصوب بفعل مقدّر متأخر تقديره: يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل يكون من الأحوال كذا وكذا. قوله: {مَاذَا أَجَبْتُمُ} أي أيّ إجابة أجابتكم به أممكم الذين بعثكم الله إليهم؟ أو أيّ جواب أجابوكم به؟ وعلى الوجهين تكون {ما} منصوبة بالفعل المذكور بعدها، وتوجيه السؤال إلى الرسل لقصد توبيخ قومهم، وجوابهم بقولهم {لاَ عِلْمَ لَنَا} مع أنهم عالمون بما أجابوا به عليهم تفويض منهم، وإظهار للعجز، وعدم القدرة، ولاسيما مع علمهم بأن السؤال سؤال توبيخ فإن تفويض الجواب إلى الله أبلغ في حصول ذلك، وقيل المعنى: لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا. وقيل لا علم لنا بما اشتملت عليه بواطنهم. وقيل المعنى: لا علم لنا إلا علم ما أنت أعلم به منا. وقيل: إنهم ذهلوا عما أجاب به قومهم لهول المحشر.
قوله: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ} {إذ} بدل، من {يوم يجمع} وهو تخصيص بعد التعميم وتخصيص عيسى عليه السلام من بين الرسل لاختلاف طائفتي اليهود والنصارى فيه إفراطاً وتفريطاً، هذه تجعله إلهاً، وهذه تجعله كاذباً. وقيل هو منصوب بتقدير اذكر، قوله: {اذكر نِعْمَتِى عَلَيْكَ وعلى والدتك} ذكره سبحانه نعمته عليه وعلى أمه، مع كونه ذاكراً لها عالماً بتفضل الله سبحانه بها، لقصد تعريف الأمم بما خصهما الله به من الكرامة وميزهما به من علوّ المقام، أو لتأكيد الحجة، وتبكيت الجاحد، بأن منزلتهما عند الله هذه المنزلة، وتوبيخ من اتخذهما إلهين، ببيان أن ذلك الإنعام عليهما كله من عند الله سبحانه، وأنهما عبدان من جملة عباده منعم عليهما بنعم الله سبحانه، ليس لهما من الأمر شيء.
قوله: {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس} {إذ} ظرف للنعمة؛ لأنها بمعنى المصدر، أي اذكر إنعامي عليك وقت تأييدي لك، أو حال من النعمة: أي كائنة ذلك الوقت {أَيَّدتُّكَ} قوّيتك مأخوذ من الأيد، وهو القوّة. وفي روح القدس وجهان: أحدهما أنها الروح الطاهرة التي خصه الله بها، وقيل: إنه جبريل عليه السلام، وقيل إنه الكلام الذي يحيى به الأرواح. والقدس: الطهر، وإضافته إليه لكونه سببه، وجملة {تُكَلّمَ الناس} مبينة لمعنى التأييد، و{فِى المهد} في محل نصب على الحال، أي تكلم الناس حال كونك صبياً وكهلاً لا يتفاوت كلامك في الحالتين مع أن غيرك يتفاوت كلامه فيهما تفاوتاً بيناً.
وقوله: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب} معطوف على {إِذْ أَيَّدتُّكَ} أي واذكر نعمتي عليك وقت تعليمي لك الكتاب أي جنس الكتاب، أو المراد بالكتاب الخط، وعلى الأوّل يكون ذكر التوراة والإنجيل من عطف الخاص على العام، وتخصيصهما بالذكر لمزيد اختصاصه بهما. أما التوراة فقد كان يحتج بها على اليهود في غالب ما يدور بينه وبينهم من الجدال كما هو مصرح بذلك في الإنجيل، وأما الإنجيل فلكونه نازلاً عليه من عند الله سبحانه، والمراد بالحكمة جنس الحكمة. وقيل هي الكلام المحكم {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} أي تصوّر تصويراً مثل صورة الطير {بِإِذْنِى} لك بذلك وتيسيري له {فَتَنفُخُ} في الهيئة المصوّرة {فَتَكُونُ} هذه الهيئة {طائراً} متحركاً حياً كسائر الطيور {وَتُبْرِئ الأكمه والأبرص بِإِذْنِى} لك وتسهيله عليك وتيسيره لك.
وقد تقدّم تفسير هذا مطوّلاً في البقرة، فلا نعيده {وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى} من قبورهم، فيكون ذلك آية لك عظيمة {بِإِذْنِى} وتكرير بإذني في المواضع الأربعة؛ للاعتناء بأن ذلك كله من جهة الله ليس لعيسى عليه السلام فيه فعل إلا مجرد امتثاله لأمر الله سبحانه.
قوله: {وَإِذْ كَفَفْتُ} معطوف على {إذ تخرج} كففت معناه: دفعت وصرفت {بَنِى إسراءيل عَنكَ} حين هموا بقتلك {إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات} بالمعجزات الواضحات {فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي ما هذا الذي جئت به إلا سحر بين، لما عظم ذلك في صدورهم وانبهروا منه لم يقدروا على جحده بالكلية، بل نسبوه إلى السحر.
قوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ ءامِنُواْ بِى وَبِرَسُولِى} هو معطوف على ما قبله.
وقد تقدّم تفسير ذلك. والوحي في كلام العرب معناه الإلهام، أي ألهمت الحواريين وقذفت في قلوبهم. وقيل معناه: أمرتهم على ألسنة الرسل أن يؤمنوا بي بالتوحيد والإخلاص ويؤمنوا برسالة رسولي. قوله: {قَالُواْ ءامَنَّا} جملة مستأنفة كأنه قيل ماذا قالوا؟ فقال: قالوا آمنا {واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} أي مخلصون للإيمان أي واشهد يا رب، أو واشهد يا عيسى.
وقد أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} فيفزعون فيقولون {لاَ عِلْمَ لَنَا} فتردّ إليهم أفئدتهم فيعلمون.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في الآية قال: ذلك أنهم نزلوا منزلاً ذهلت فيه العقول، فلما سئلوا قالوا: لا علم لنا، ثم نزلوا منزلاً آخر فشهدوا على قومهم.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس قال: قالوا لا علم لنا فرقاً يذهل عقولهم، ثم يردّ الله إليهم عقولهم، فيكونون هم الذين يسألون بقول الله: {فَلَنَسْئَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ المرسلين} [الأعراف: 6].
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة يدعى بالأنبياء وأممها ثم يدعى بعيسى فيذكره نعمته عليه فيقرّ بها، فيقول: {يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك} الآية، ثم يقول ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ فينكر أن يكون قال ذلك، فيؤتى بالنصارى فيسألون، فيقولون نعم هو أمرنا بذلك، فيطول شعر عيسى حتى يأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده، فيجاثيهم بين يدي الله مقدار ألف عام حتى يوقع عليهم الحجة، ويرفع لهم الصليب وينطلق بهم إلى النار».
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إسراءيل عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات} أي بالآيات التي وضع على يديه من إحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير وإبراء الأسقام، والخبر بكثير من الغيوب.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين} يقول قذفت في قلوبهم.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه.

.تفسير الآيات (112- 115):

{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)}
قوله: {إِذْ قَالَ الحواريون} الظرف منصوب بفعل مقدر، أي، اذكر أو نحوه كما تقدّم، قيل والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم. قرأ الكسائي {هَل تَسْتَطِيعَ} بالفوقية، ونصب {ربك} وبه قرأ عليّ وابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد. وقرأ الباقون بالتحتية ورفع {ربك} واستشكلت القراءة الثانية بأنه قد وصف سبحانه الحواريين بأنهم قالوا: {آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111] والسؤال عن استطاعته لذلك ينافي ما حكوه عن أنفسهم.
وأجيب بأن هذا كان في أوّل معرفتهم قبل أن تستحكم معرفتهم بالله، ولهذا قال عيسى في الجواب عن هذا الاستفهام الصادر منهم، {اتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي لا تشكوا في قدرة الله. وقيل: إنهم ادّعوا الإيمان والإسلام دعوى باطلة، ويردّه أن الحواريين هم خلصاء عيسى وأنصاره، كما قال: {مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله} [آل عمران: 52] وقيل: إن ذلك صدر ممن كان معهم، وقيل: إنهم لم يشكوا في استطاعة البارئ سبحانه، فإنهم كانوا مؤمنين عارفين بذلك، وإنما هو كقول الرجل: هل يستطيع فلان أن يأتي؟ مع علمه بأنه يستطيع ذلك ويقدر عليه، فالمعنى: هل يفعل ذلك وهل يجيب إليه؟ وقيل إنهم طلبوا الطمأنينة كما قال إبراهيم عليه السلام {رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الموتى} الآية [البقرة: 260]. ويدل على هذا قولهم من بعد {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} وأما على القراءة الأولى، فالمعنى: هل تستطيع أن تسأل ربك؟ قال الزجاج: المعنى هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله؟ فهو من باب: {واسئل القرية} [يوسف: 82]، والمائدة: الخوان إذا كان عليه الطعام، من ماده: إذا أعطاه ورفده كأنها تميد من تقدّم إليه قاله قطرب وغيره. وقيل هي فاعلة بمعنى مفعولة كعيشة راضية قاله أبو عبيدة، فأجابهم عيسى عليه السلام بقوله: {اتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي اتقوه من هذا السؤال، وأمثاله إن كنتم صادقين في إيمانكم، فإن شأن المؤمن ترك الاقتراح على ربه على هذه الصفة؛ وقيل: إنه أمرهم بالتقوى ليكون ذلك ذريعة إلى حصول ما طلبوه.
قوله: {قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا} بينوا به الغرض من سؤالهم نزول المائدة، وكذا ما عطف عليه من قولهم: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين} والمعنى: تطمئن قلوبنا بكمال قدرة الله، أو بأنك مرسل إلينا من عنده، أو بأن الله قد أجابنا إلى ما سألناه، ونعلم علماً يقيناً بأنك قد صدقتنا في نبوّتك، ونكون عليها من الشاهدين عند من لم يحضرها من بني إسرائيل، أو من سائر الناس، أو من الشاهدين لله بالوحدانية، أو من الشاهدين، أي الحاضرين دون السامعين.
ولما رأى عيسى ما حكوه عن أنفسهم من الغرض بنزول المائدة قال: {اللهم رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء} أي كائنة أو نازلة من السماء، وأصل اللهمّ عند سيبويه وأتباعه: يالله، فجعلت الميم بدلاً من حرف النداء، وربنا نداء ثان، وليس بوصف، و{تَكُونُ لَنَا عِيداً} وصف لمائدة. وقرأ الأعمش {يكون لنا عيدا} أي يكون يوم نزولها لنا عيداً.
وقد كان نزولها يوم الأحد، وهو يوم عيد لهم والعيد واحد الأعياد، وإنما جمع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد. وقيل للفرق بينه وبين أعواد جمع عود، ذكر معناه الجوهري. وقيل أصله من عاد يعود أي رجع، فهو عود بالواو، وتقلب ياء لانكسار ما قبلها، مثل الميزان والميقات والميعاد، فقيل ليوم الفطر والأضحى عيدان، لأنهما يعودان في كل سنة.
وقال الخليل: العيد كل يوم جمع كأنهم عادوا إليه. قوله: {لأِوَّلِنَا وَءاخِرِنَا} بدل من الضمير في {لنا} بتكرير العامل أي لمن في عصرنا ولمن يأتي بعدنا من ذرارينا وغيرهم. قوله: {وَآيَةً مِّنْك} عطف على {عيداً}: أي دلالة وحجة واضحة على كمال قدرتك، وصحة إرسالك من أرسلته {وارزقنا} أي أعطنا هذه المائدة المطلوبة، أو ارزقنا رزقاً نستعين به على عبادتك {وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين} بل لا رازق في الحقيقة غيرك ولا معطى سواك، فأجاب الله سبحانه سؤال عيسى عليه السلام فقال: {إِنّى مُنَزّلُهَا} أي المائدة {عَلَيْكُمْ}.
وقد اختلف أهل العلم هل نزلت عليهم المائدة أم لا؟ فذهب الجمهور إلى الأوّل وهو الحق، لقوله سبحانه: {إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ} ووعده الحق وهولا يخلف الميعاد.
وقال مجاهد: ما نزلت وإنما هو ضرب مثل ضربه الله لخلقه نهياً لهم عن مسألة الآيات لأنبيائه، وقال الحسن: وعدهم بالإجابة، فلما قال: {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ} استغفروا الله وقالوا لا نريدها.
قوله: {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ} أي بعد تنزيلها {فَإِنّى أُعَذّبُهُ عَذَاباً} أي تعذيباً {لاَّ أُعَذّبُهُ} صفة ل {عذاباً} والضمير عائد إلى العذاب بمعنى التعذيب، أي لا أعذب مثل ذلك التعذيب {أَحَداً مّن العالمين} قيل: المراد عالمي زمانهم. وقيل جميع العالمين، وفي هذا من التهديد والترهيب ما لا يقادر قدره.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن عائشة قالت: كان الحواريون أعلم بالله من أن يقولوا: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} إنما قالوا: هل تستطيع أنت ربك أن تدعوه، ويؤيد هذا ما أخرجه الحاكم وصححه، والطبراني وابن مردويه، عن معاذ بن جبل أنه قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم {هَلُ تَسْتَطِيعَ رَبَّكَ} بالتاء يعني الفوقية.
وأخرج أبو عبيد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، أنه قرأها كذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال: المائدة الخوان، وتطمئن: توقن.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ في قوله: {تَكُونُ لَنَا عِيداً} يقول: نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيداً نعظمه نحن، ومن بعدنا.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس: أنه كان يحدّث عن عيسى ابن مريم أنه قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم؟ فإن أجر العامل على من عمل له، ففعلوا ثم قالوا: يا معلم الخير، قلت لنا إن أجر العامل على من عمل له، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً ففعلنا، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوماً إلا أطعمنا {فَهَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً} إلى قوله: {أَحَداً مّن العالمين} فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات، وسبعة أرغفة، حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل أوّلهم.
وأخرج الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن عمار بن ياسر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدّخروا لغد، فخافوا وادّخروا، ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير» وقد روي موقوفاً على عمار. قال الترمذي: والوقف أصح.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: المائدة سمكة وأرغفة.
وأخرج ابن جرير من طريق العوفيّ عنه قال: نزلت على عيسى ابن مريم، والحواريين، خوان عليه سمك وخبز، يأكلون منه أينما تولوا إذا شاءوا.
وأخرج ابن جرير نحوه عنه من طريق عكرمة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ عن عبد الله بن عمرو قال: إن أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة، والمنافقون، وآل فرعون.